جن جنون " دهريار" ؛ شقيق "شهريار" ؛ حينما علم من عيونه وجواسيسه في قصر أخيه بنبأ حمل "شهرزاد"،وخشي أن تضع ولداً فتكون القاضية، ويرث أبن أخيه المُلك دونه !
وحمله خوفه الشديد على اللجوء إلى" عرافة عيلام"، رغم مقته الشديد لها!
وأرسل"دهريار" ؛من مكانه في عاصمة بلاد "الأفلاق"؛ مَن يستدعيها من جبال " بغ" .. ولكن العرافة الملعونة أرسلت إليه جواباً مهيناً ؛ مؤداه أنها في فترة حداد على موت ولدها " سينون"، وإنها لا
تهبط لمقابلة أحد وهي في أيام الحداد ،ومَن أرادها فليذهب إليها في مكانها !
وغلى صدر " دهريار" غيظاً،لكنه قرر الذهاب إلى العرافة الملعونة ليعرف مصيره، ولو غامر في سبيل ذلك بالصعود إلى جبال"بغ"!
وبعد تردد قصير حسم " دهريار" أمره ، وأمر خدمه فأعدوا له مئونة تكفيه شهراَ، وستة من الخيول المسرجة وعدد كبير من الحمير المحملة بالألطاف والهدايا،بالإضافة إلى جواده الخاص" فادان"..
وفي صباح أغبر مليء بالضباب من شهر " أيل " أقلع الركب الميمون متوجهاً إلى " آرام"، ومنها إلى جبال "بغ"، التي وصلها في منتصف شهر "موي" ..
وبلغت أنباء رحلة " دهريار" أسماع " عرافة عيلام " ،فأرسلت من يبلغ الشاهان بأن يترك الركب أسفل الجبل ويتخلى عن صهوة جواده ، ويأتيها فرداً ماشياً على قدميه!
وأجتاح إعصار من الغضب صدر " دهريار " واحتقن وجهه ؛ وهي عادته إذا أنتابه الغضب الشديد ؛ حتى كاد يفتك برسول العرافة، ولكنه ما إن هدأ قليلاً ، واستعاد رباطة جأشه، حتى أدرك عمق الهاوية التي كاد يتردى فيها بتفكيره في قتل رسول " عرافة عيلام"، لرد الإهانة التي لحقت به!
وفي اليوم التالي ؛ وبعد مدافعة عظيمة لنفسه الثائرة ؛ أرسل " دهريار" يستدعى رسول العرافة ، فلما مَثَل الرجل بين يديه ولثم الأرض بين قدميه، قال له بصوت أجش مخيف:
" أبلغ العرافة اللعينة بأنني قادم إليها، على الصورة التي تريدها ،ولكن حذارِ من الغدر!"
فأبتسم الرسول ابتسامة خبيثة وقال متصنعاً الخضوع:
" ولقد أمرتني سيدتي بأن أصحب مولاي الشاهان المعظم إلى مقرها ( ثم أنحنى الرسول بحركة تمثيلية وأضاف ) وأكون رهن أمره ! "
ولما فرغ الرسول من قوله قطب " دهريار" جبينه وانعقد حاجباه ثم قال:
" حسنا ! ولكن ليكن ذلك من أقصر الطرق ، ولا داعي للمرور على مرتفعات الجان ؛ أو مكامن العنقاء، فأنا في عجلة من أمري، وابغي العودة إلى مقر ملكي بأسرع ما يكون "
ومرة أخرى انحنى الرسول وأجاب:
"لمولاي ما يأمر! "
ولم يلبث الشاهان أن غادر المعسكر ؛ الذي أقامه مرافقوه ؛ بصحبة رسول " عرافة عيلام "، وخرج الاثنان منفردان بدون حراسة من المعسكر .. وكان الوقت أصيلاً والشمس تتوسط كبد السماء ،وترسل شواظٍ من نار على الجسدين
المتحركين على الطرق الجبلية العسيرة المسالك، وما إن انبثق القمر وبرز من خلف الغبش الثقيل حتى كان الاثنان ؛ رسول عرافة عيلام و" دهريار" ؛ قد وصلا إلى قمة جبل من جبال " بغ " يسمى "آرام " ، حيث مقر "عرافة " عيلام" !
كانت عرافة عيلام ،كما رآها"دهريار" آخر مرة ،امرأة نحيلة عجوز مقوسة الظهر خشنة الملامح، تُقارب الرجال إلى حد بعيد ، ذات صوت واهن ،وعضلات عينها اليسري ميتة ، مما جعلها ترتخي ولا تقدر على رفع جفنها ،وعينها المتبقية ترسل نظرات خبيثة متنمرة ،كنظرة الذئب في أعلى الأجمة إلى أرنب يسعى تحته!
هكذا كانت الصورة التي انطبعت في ذهن "دهريار " عن عرافة عيلام ،والتي ساهمت في جعل كراهيته لها مزدوجة .. فقد كان في البداية ؛ قبل أن يراها ؛ يمقتها لأجل سلاطة لسانها ،وتقديس شعب الأفلاق لها ،وكذا النبوءات السوداء التي تنبأت له بها وحدثت كلها !
وكانت " عرافة عيلام " هي التي تنبأت بأن الشاهنشاه الأكبر سوف يؤثر ولده الأصغر "شهريار" بالعرش دوناً عن بقية أولاده ؛وعلى رأسهم ولده الأكبر "دهريار"،ولكن الأخير بعد أن رأى عرافة عيلام رؤى العين صار يكرهها مرتين ، مرة لشخصها ونبوءاتها السوداء التي لا تخيب ، ومرة لصورتها الكريهة !
************
وكان مقر " عرافة عيلام" في أعلى نقطة من جبال " بغ " تحده زوايا حجرية ضخمة، والمقر نفسه بناء غريب الشكل ،عبارة عن حصن مشيد بكتل ضخمة من الأحجار ، وله برج .. ولكن البناء كان مقلوباً، فكان المبنى يرتكز على البرج ، الذي كان من أسفل !
وعندما وصل " دهريار" والرسول إلى المبنى القائم في مواجهتهما أكتشف أن المبنى ليس له أبواب أو فتحات ، لا من أعلى ولا من أسفل!.. فدهش ونظر إلى رسول العرافة نظرة متسائلة،فأبتسم الرسول تلك الابتسامة الخبيثة المقززة ، ثم أخذ بيد الشاهان ودار به حول البناء ، حتى وصلا إلى مكانٍ غائر في الصخر، وبه حفرة صغيرة ؛ بحجم قبضة اليد تماماً ؛ وأدخل الرسول يده في الحفرة الصغيرة ، واستخرج مفتاحاً بالغ الصغر ، وعادا إلى المكان الأول ؛ الذي كانا يقفان فيه من قبل ؛ ودس رسول العرافة المفتاح في إحدى حبات عنقود من عناقيد العنب ، مرسوم على الصخر، فإذا بصخرة الواجهة العملاقة تتحرك محدثة صوتاً مدوياً، جعل "دهريار" يجفل ويتراجع إلى الخلف ،واستمرت الصخرة تتحرك، ثم ارتفعت إلى أعلى كاشفة عن ممر متسع بعيد الغور يكتنفه بهوان ، لم يرى "دهريار" في حياته مثلهما !
وابتسم الرسول بفخر عندما رأى علامات الدهشة والخوف على وجه "دهريار"، واقتاد الشاهان من يده واجتاز به الممر بالغ الطول ، ثم صعدا سلماً حجرياً ملتوياً، وعبرا سراديب رطبة مظلمة ، قبل أن يدخلا إلي قاعة واسعة تضيئها آلاف المشاعل ، وفي الوسط أستقر طبق كبير به أعواد مشتعلة ،تطلق رائحة ذكية؛ وتقف بجواره شابة حسناء ، لم يرى "دهريار" في حياته من هي أجمل منها.. وعرف أنها " عرافة عيلام "، الجديدة !
************
تجمد "دهريار" في مكانه لحظة، ولم يستطع منع عينيه من التحديق في الفتاة الحسناء، والتهام مفاتنها البارزة بروزاً مخجلاً، وبشق الأنفس تمكن من السيطرة على نفسه ووجد صوته ليقول:
" أين " عرافة عيلام"؟! "
فأجابت الفتاة بنبرة فاتنة :
" في خدمة مولاها!"
" ولكن أين هي؟!"
فابتسمت الفتاة وقالت ( وهي تسأل نفسها أي نوع من الأغبياء هو) :
"هي أمامك!"
وتسأل "دهريار" وهو يرمق الرسول الواقف خلف ظهره بنظرة نارية:
" أأنتِ هي؟؟!"،فانحنت الفتاة وهى ترد قائلة:
"أجل!"
"ولكن ،أنا أعرفها .. وأنت لست هي!"
ومرة أخرى ابتسمت الفتاة، وأجابت قائلة:
" بالطبع أنا لست هي ، أنا أبنتها،لقد صعدت أمي إلى الإله ، وحللت أنا محلها في خدمة شعب الأفلاق ، ومولاي ملك الأفلاق ،ولي الشرف !"،
"آه !، ولكن رسولك الهمام لم يبلغني بشيء من هذا كله؟!"
فردت الفتاة؛ وهى ترمق الرسول بنظرة احتقار:
" إنه ليس رسولي أنا ، بل رسول أمي،وما كنت لأرسل مخلوقاً حقيراً ليحادث مولاي بالنيابة عنى (وانحنت وهي تضيف ) بل آتى بنفسي ، واضع نفسي تحت أمر مولاي!"
فسُر "دهريار" من جوابها ، وابتسم لأول مرة منذ علمه بالخبر الذي أقض مضجعه، وتساءل :
" وهل تستطيعين أن تقومي بما كانت تقوم به أمك؟ "
" بل وأكثر مما كانت تقوم به، وبعد أن يتفضل مولاي بالجلوس ، فسوف أثلج صدره بما عندي له! ""
وأشارت العرافة الجديدة بأصبعها، فغادر الرسول المكان، وبقى "دهريار"بمفرده ، مع العرافة الحسناء..
" وهل تعلمين بما جئت إليكِ من أجله؟ "
فابتسمت " عرافة عيلام " باستهانة وجابت قائلة :
" دعني أخمن ، مولاي قلق لما بلغه من أنباء حمل "شهرزاد"! "
أُخذ "دهريار"قليلاً ثم أردف:
" وما قولك؟ "
" قولي الفصل! ولن يأتي من عالم الغيب ما يكدر صفو مولاي، لتسعة عشر عاماً قادمة! "
" حتى ولا المولود الذي ستضعه اللعينة لأخي؟! "
" اللعينة ليست هي التي سوف تضع .. بل "شهرزاد"!"
"وأنا أتحدث عن "شهرزاد"!"
"آه!، لقد أختلط الأمر على ، وحسبتك تعنيني أنا !"
"أنتِ؟؟؟"
"نعم !، ألم تلقبني باللعينة من قبل، أو لم تقل لرسول أمي : أبلغ العرافة اللعينة بأنني قادم إليها على الصورة التي تريدها؟! "
وصمتت العرافة ، بينما علت الدهشة البالغة وجه"دهريار" ، وتيقن بأنه أمام عرافة بارعة، وإلا فكيف عرفت ما قاله لرجلها ، على بُعد آلاف الفراسخ منها، والرجل ؛ الرسول ؛ لم يختلي بها لحظة واحدة، ليخبرها بما قاله عنها !
وأبتلع "دهريار" ريقه بصوتٍ مسموع وسأل:
" وكيف عرفت أنني قلت ذلك ؟"،
" ألم تقله حقاً؟"
" بل قلته!"
"إذاً فما دمت قد قلت ،فلا يهم كيف عرفت أنا بذلك!، المهم!" قالت العرافة ثم صمتت طويلاً بينما كان قلب "دهريار" يرتجف خوفاً " المهم هو ما جئت من أجله، واعتقد أنك يا مولاي في عجلة من أمرك، وتود أن ترجع إلى عاصمة ملكك بأسرع ما يكون!"
ومرة أخرى ساد الصمت الطويل ، وبعد عدة رشفات من كوب ذهبي في يدها، أردفت عرافة عيلام " ديدامونا " :
" إذاً فلترجع يا مولاي، طيب القلب صافي الأديم ،فاللعينة سوف تلد بنتاً ،والعرش سيخلُص لك طويلاً!"
وهب " دهريار" واقفاً وقد كاد قلبه يقفز في فمه فرحاً، وتدفق الدم حاراً إلى وجنتيه فتوردتا، والى أذنيه فأحس فيهما صفيراً شديداً..
" بنتاً ؟ أحقاً ما تقولين؟! "
ولم تجب عرافة عيلام بل أكتفت بإحناء رأسها بالإيجاب، فتبسم "دهريار" وطفحت السعادة على ملامحه .. ولكن سروره غاض فجأة حينما تذكر باقي قول العرافة " وسيخلُص لك العرش طويلاً"! ودب القلق فجأة في نفسه، وانسحبت الدماء هاربة من وجنتيه،فلماذا قالت العرافة الملعونة " طويلاً"، ولم تقل " دائماً"؟!
وقفز التساؤل إلى عيني الشاهان الموسوس ، وقرأته " ديدامونا" بوضوح في مقلتيه فقالت بصوتٍ عميق يحمل نبرة تحذير:
" أجل! ،سوف تكون بنتاً، ولكن ليست كأي بنت أخري .. سوف تكون"روكساني"!"
" وهل هذا هو اسمها؟"
" أو ما سوف يكون أسمها ، ولا يهم الاسم ، بل الأهم هو الفعل!"
" الفعل ؟ وماذا سوف تفعل الأنثى؟؟"
فابتسمت عرافة" عيلام " لقول الشاهان الضيق العقل باستخفاف وأجابت :
" لا تسخر من النساء أيها الشاهان، ولا تستقل بقدراتهن، وانظر حولك إذا شئت لتري ما تستطيع النساء فعله ! "
وشحب وجه " دهريار " بشدة وتساءل بحيرة :
" إذاً ؟! "
" إذاً فليعد مولاي إلي مقره بسلام وينعم بالسرور، وينتظر بأناة وبغير تعجل ما سوف تأتي به الأيام، وليكونن أكثره خيراً له وسروراً لقلبه ! "
وأذن اللقاء بين عرافة " عيلام " " ديدامونا " والشاهان " دهريار " بانتهاء ، ولكنه ؛ وان كان أول لقاء بينهما ؛ إلا إنه لم يصبح الأخير !
وحمله خوفه الشديد على اللجوء إلى" عرافة عيلام"، رغم مقته الشديد لها!
وأرسل"دهريار" ؛من مكانه في عاصمة بلاد "الأفلاق"؛ مَن يستدعيها من جبال " بغ" .. ولكن العرافة الملعونة أرسلت إليه جواباً مهيناً ؛ مؤداه أنها في فترة حداد على موت ولدها " سينون"، وإنها لا
تهبط لمقابلة أحد وهي في أيام الحداد ،ومَن أرادها فليذهب إليها في مكانها !
وغلى صدر " دهريار" غيظاً،لكنه قرر الذهاب إلى العرافة الملعونة ليعرف مصيره، ولو غامر في سبيل ذلك بالصعود إلى جبال"بغ"!
وبعد تردد قصير حسم " دهريار" أمره ، وأمر خدمه فأعدوا له مئونة تكفيه شهراَ، وستة من الخيول المسرجة وعدد كبير من الحمير المحملة بالألطاف والهدايا،بالإضافة إلى جواده الخاص" فادان"..
وفي صباح أغبر مليء بالضباب من شهر " أيل " أقلع الركب الميمون متوجهاً إلى " آرام"، ومنها إلى جبال "بغ"، التي وصلها في منتصف شهر "موي" ..
وبلغت أنباء رحلة " دهريار" أسماع " عرافة عيلام " ،فأرسلت من يبلغ الشاهان بأن يترك الركب أسفل الجبل ويتخلى عن صهوة جواده ، ويأتيها فرداً ماشياً على قدميه!
وأجتاح إعصار من الغضب صدر " دهريار " واحتقن وجهه ؛ وهي عادته إذا أنتابه الغضب الشديد ؛ حتى كاد يفتك برسول العرافة، ولكنه ما إن هدأ قليلاً ، واستعاد رباطة جأشه، حتى أدرك عمق الهاوية التي كاد يتردى فيها بتفكيره في قتل رسول " عرافة عيلام"، لرد الإهانة التي لحقت به!
وفي اليوم التالي ؛ وبعد مدافعة عظيمة لنفسه الثائرة ؛ أرسل " دهريار" يستدعى رسول العرافة ، فلما مَثَل الرجل بين يديه ولثم الأرض بين قدميه، قال له بصوت أجش مخيف:
" أبلغ العرافة اللعينة بأنني قادم إليها، على الصورة التي تريدها ،ولكن حذارِ من الغدر!"
فأبتسم الرسول ابتسامة خبيثة وقال متصنعاً الخضوع:
" ولقد أمرتني سيدتي بأن أصحب مولاي الشاهان المعظم إلى مقرها ( ثم أنحنى الرسول بحركة تمثيلية وأضاف ) وأكون رهن أمره ! "
ولما فرغ الرسول من قوله قطب " دهريار" جبينه وانعقد حاجباه ثم قال:
" حسنا ! ولكن ليكن ذلك من أقصر الطرق ، ولا داعي للمرور على مرتفعات الجان ؛ أو مكامن العنقاء، فأنا في عجلة من أمري، وابغي العودة إلى مقر ملكي بأسرع ما يكون "
ومرة أخرى انحنى الرسول وأجاب:
"لمولاي ما يأمر! "
ولم يلبث الشاهان أن غادر المعسكر ؛ الذي أقامه مرافقوه ؛ بصحبة رسول " عرافة عيلام "، وخرج الاثنان منفردان بدون حراسة من المعسكر .. وكان الوقت أصيلاً والشمس تتوسط كبد السماء ،وترسل شواظٍ من نار على الجسدين
المتحركين على الطرق الجبلية العسيرة المسالك، وما إن انبثق القمر وبرز من خلف الغبش الثقيل حتى كان الاثنان ؛ رسول عرافة عيلام و" دهريار" ؛ قد وصلا إلى قمة جبل من جبال " بغ " يسمى "آرام " ، حيث مقر "عرافة " عيلام" !
كانت عرافة عيلام ،كما رآها"دهريار" آخر مرة ،امرأة نحيلة عجوز مقوسة الظهر خشنة الملامح، تُقارب الرجال إلى حد بعيد ، ذات صوت واهن ،وعضلات عينها اليسري ميتة ، مما جعلها ترتخي ولا تقدر على رفع جفنها ،وعينها المتبقية ترسل نظرات خبيثة متنمرة ،كنظرة الذئب في أعلى الأجمة إلى أرنب يسعى تحته!
هكذا كانت الصورة التي انطبعت في ذهن "دهريار " عن عرافة عيلام ،والتي ساهمت في جعل كراهيته لها مزدوجة .. فقد كان في البداية ؛ قبل أن يراها ؛ يمقتها لأجل سلاطة لسانها ،وتقديس شعب الأفلاق لها ،وكذا النبوءات السوداء التي تنبأت له بها وحدثت كلها !
وكانت " عرافة عيلام " هي التي تنبأت بأن الشاهنشاه الأكبر سوف يؤثر ولده الأصغر "شهريار" بالعرش دوناً عن بقية أولاده ؛وعلى رأسهم ولده الأكبر "دهريار"،ولكن الأخير بعد أن رأى عرافة عيلام رؤى العين صار يكرهها مرتين ، مرة لشخصها ونبوءاتها السوداء التي لا تخيب ، ومرة لصورتها الكريهة !
************
وكان مقر " عرافة عيلام" في أعلى نقطة من جبال " بغ " تحده زوايا حجرية ضخمة، والمقر نفسه بناء غريب الشكل ،عبارة عن حصن مشيد بكتل ضخمة من الأحجار ، وله برج .. ولكن البناء كان مقلوباً، فكان المبنى يرتكز على البرج ، الذي كان من أسفل !
وعندما وصل " دهريار" والرسول إلى المبنى القائم في مواجهتهما أكتشف أن المبنى ليس له أبواب أو فتحات ، لا من أعلى ولا من أسفل!.. فدهش ونظر إلى رسول العرافة نظرة متسائلة،فأبتسم الرسول تلك الابتسامة الخبيثة المقززة ، ثم أخذ بيد الشاهان ودار به حول البناء ، حتى وصلا إلى مكانٍ غائر في الصخر، وبه حفرة صغيرة ؛ بحجم قبضة اليد تماماً ؛ وأدخل الرسول يده في الحفرة الصغيرة ، واستخرج مفتاحاً بالغ الصغر ، وعادا إلى المكان الأول ؛ الذي كانا يقفان فيه من قبل ؛ ودس رسول العرافة المفتاح في إحدى حبات عنقود من عناقيد العنب ، مرسوم على الصخر، فإذا بصخرة الواجهة العملاقة تتحرك محدثة صوتاً مدوياً، جعل "دهريار" يجفل ويتراجع إلى الخلف ،واستمرت الصخرة تتحرك، ثم ارتفعت إلى أعلى كاشفة عن ممر متسع بعيد الغور يكتنفه بهوان ، لم يرى "دهريار" في حياته مثلهما !
وابتسم الرسول بفخر عندما رأى علامات الدهشة والخوف على وجه "دهريار"، واقتاد الشاهان من يده واجتاز به الممر بالغ الطول ، ثم صعدا سلماً حجرياً ملتوياً، وعبرا سراديب رطبة مظلمة ، قبل أن يدخلا إلي قاعة واسعة تضيئها آلاف المشاعل ، وفي الوسط أستقر طبق كبير به أعواد مشتعلة ،تطلق رائحة ذكية؛ وتقف بجواره شابة حسناء ، لم يرى "دهريار" في حياته من هي أجمل منها.. وعرف أنها " عرافة عيلام "، الجديدة !
************
تجمد "دهريار" في مكانه لحظة، ولم يستطع منع عينيه من التحديق في الفتاة الحسناء، والتهام مفاتنها البارزة بروزاً مخجلاً، وبشق الأنفس تمكن من السيطرة على نفسه ووجد صوته ليقول:
" أين " عرافة عيلام"؟! "
فأجابت الفتاة بنبرة فاتنة :
" في خدمة مولاها!"
" ولكن أين هي؟!"
فابتسمت الفتاة وقالت ( وهي تسأل نفسها أي نوع من الأغبياء هو) :
"هي أمامك!"
وتسأل "دهريار" وهو يرمق الرسول الواقف خلف ظهره بنظرة نارية:
" أأنتِ هي؟؟!"،فانحنت الفتاة وهى ترد قائلة:
"أجل!"
"ولكن ،أنا أعرفها .. وأنت لست هي!"
ومرة أخرى ابتسمت الفتاة، وأجابت قائلة:
" بالطبع أنا لست هي ، أنا أبنتها،لقد صعدت أمي إلى الإله ، وحللت أنا محلها في خدمة شعب الأفلاق ، ومولاي ملك الأفلاق ،ولي الشرف !"،
"آه !، ولكن رسولك الهمام لم يبلغني بشيء من هذا كله؟!"
فردت الفتاة؛ وهى ترمق الرسول بنظرة احتقار:
" إنه ليس رسولي أنا ، بل رسول أمي،وما كنت لأرسل مخلوقاً حقيراً ليحادث مولاي بالنيابة عنى (وانحنت وهي تضيف ) بل آتى بنفسي ، واضع نفسي تحت أمر مولاي!"
فسُر "دهريار" من جوابها ، وابتسم لأول مرة منذ علمه بالخبر الذي أقض مضجعه، وتساءل :
" وهل تستطيعين أن تقومي بما كانت تقوم به أمك؟ "
" بل وأكثر مما كانت تقوم به، وبعد أن يتفضل مولاي بالجلوس ، فسوف أثلج صدره بما عندي له! ""
وأشارت العرافة الجديدة بأصبعها، فغادر الرسول المكان، وبقى "دهريار"بمفرده ، مع العرافة الحسناء..
" وهل تعلمين بما جئت إليكِ من أجله؟ "
فابتسمت " عرافة عيلام " باستهانة وجابت قائلة :
" دعني أخمن ، مولاي قلق لما بلغه من أنباء حمل "شهرزاد"! "
أُخذ "دهريار"قليلاً ثم أردف:
" وما قولك؟ "
" قولي الفصل! ولن يأتي من عالم الغيب ما يكدر صفو مولاي، لتسعة عشر عاماً قادمة! "
" حتى ولا المولود الذي ستضعه اللعينة لأخي؟! "
" اللعينة ليست هي التي سوف تضع .. بل "شهرزاد"!"
"وأنا أتحدث عن "شهرزاد"!"
"آه!، لقد أختلط الأمر على ، وحسبتك تعنيني أنا !"
"أنتِ؟؟؟"
"نعم !، ألم تلقبني باللعينة من قبل، أو لم تقل لرسول أمي : أبلغ العرافة اللعينة بأنني قادم إليها على الصورة التي تريدها؟! "
وصمتت العرافة ، بينما علت الدهشة البالغة وجه"دهريار" ، وتيقن بأنه أمام عرافة بارعة، وإلا فكيف عرفت ما قاله لرجلها ، على بُعد آلاف الفراسخ منها، والرجل ؛ الرسول ؛ لم يختلي بها لحظة واحدة، ليخبرها بما قاله عنها !
وأبتلع "دهريار" ريقه بصوتٍ مسموع وسأل:
" وكيف عرفت أنني قلت ذلك ؟"،
" ألم تقله حقاً؟"
" بل قلته!"
"إذاً فما دمت قد قلت ،فلا يهم كيف عرفت أنا بذلك!، المهم!" قالت العرافة ثم صمتت طويلاً بينما كان قلب "دهريار" يرتجف خوفاً " المهم هو ما جئت من أجله، واعتقد أنك يا مولاي في عجلة من أمرك، وتود أن ترجع إلى عاصمة ملكك بأسرع ما يكون!"
ومرة أخرى ساد الصمت الطويل ، وبعد عدة رشفات من كوب ذهبي في يدها، أردفت عرافة عيلام " ديدامونا " :
" إذاً فلترجع يا مولاي، طيب القلب صافي الأديم ،فاللعينة سوف تلد بنتاً ،والعرش سيخلُص لك طويلاً!"
وهب " دهريار" واقفاً وقد كاد قلبه يقفز في فمه فرحاً، وتدفق الدم حاراً إلى وجنتيه فتوردتا، والى أذنيه فأحس فيهما صفيراً شديداً..
" بنتاً ؟ أحقاً ما تقولين؟! "
ولم تجب عرافة عيلام بل أكتفت بإحناء رأسها بالإيجاب، فتبسم "دهريار" وطفحت السعادة على ملامحه .. ولكن سروره غاض فجأة حينما تذكر باقي قول العرافة " وسيخلُص لك العرش طويلاً"! ودب القلق فجأة في نفسه، وانسحبت الدماء هاربة من وجنتيه،فلماذا قالت العرافة الملعونة " طويلاً"، ولم تقل " دائماً"؟!
وقفز التساؤل إلى عيني الشاهان الموسوس ، وقرأته " ديدامونا" بوضوح في مقلتيه فقالت بصوتٍ عميق يحمل نبرة تحذير:
" أجل! ،سوف تكون بنتاً، ولكن ليست كأي بنت أخري .. سوف تكون"روكساني"!"
" وهل هذا هو اسمها؟"
" أو ما سوف يكون أسمها ، ولا يهم الاسم ، بل الأهم هو الفعل!"
" الفعل ؟ وماذا سوف تفعل الأنثى؟؟"
فابتسمت عرافة" عيلام " لقول الشاهان الضيق العقل باستخفاف وأجابت :
" لا تسخر من النساء أيها الشاهان، ولا تستقل بقدراتهن، وانظر حولك إذا شئت لتري ما تستطيع النساء فعله ! "
وشحب وجه " دهريار " بشدة وتساءل بحيرة :
" إذاً ؟! "
" إذاً فليعد مولاي إلي مقره بسلام وينعم بالسرور، وينتظر بأناة وبغير تعجل ما سوف تأتي به الأيام، وليكونن أكثره خيراً له وسروراً لقلبه ! "
وأذن اللقاء بين عرافة " عيلام " " ديدامونا " والشاهان " دهريار " بانتهاء ، ولكنه ؛ وان كان أول لقاء بينهما ؛ إلا إنه لم يصبح الأخير !
Last night #جنون_شهرزاد #الليلة_الثالثة بقلم منال عبد الحميد
عنوان الموضوع: "Last night #جنون_شهرزاد #الليلة_الثالثة بقلم منال عبد الحميد "
إرسال تعليق