الحرفوش الصغير في عيادةِ الطبيب
بقلم: محمد بن يوسف كرزون
لم يخطر على بالي أنّني سأحظى بإعجاب الدكتور فتحي، وسأكونُ صديقه الحميم.
التقيتُ بالدكتور مصادفةً عندما احتاجني صديقي المريض أسعد، فعرضْتُ عليه أن يذهبَ إلى طبيب، فقال لي: عندي طبيبي الخاصّ الدكتور فتحي، وهو يعرفُ أمراضي كلّها.
دخلنا العيادةَ الساعة التاسعة مساءً تقريباً، في يومٍ شتويّ، فلم يكن في العيادة سوى الدكتور وعنده أحد الأصدقاء في زيارةٍ ودّيّة.
خرجَ صديقه مودّعاً، وطلبَ منّا الدخول، فدخلنا:
- أهلاً يا أسعد، خير إن شاء الله؟
وراحَ أسعدُ يحكي للدكتور شكواه، ويصف ألمه. قال له - الدكتور:
- بسيطة... بسيطة..
ثمّ شرعَ في معاينته بدقّة وعناية، وهو يسأله، وأسعد يجيب. ثمّ وصفَ له الدواء، وأعطاه بعضَ التعليمات الضروريّة.
وبعدها التفتَ إلى أسعد يسأله:
- لم تعرّفني على الشاب الذي معك.
- آسف، إنّه صديقي، الحرفوش الصغير
كادَ الدكتور فتحي يستلقي على قفاه من الضحك، إلى أن احمرّ وجهه، ثمّ ضبط وجهه عندما قرأَ في ملامحي علامة الاستغراب، بل الاستنكار، فما بِهِ اسمي من أمرٍ مضحك حتى جعلته يضحكُ كلَّ هذا؟
صحّح الدكتور فتحي من وضعه، وقام إليّ يصافحني ويحييني على مجيئي مع أسعد، وهو يقول لي:
- أنتَ ولد ابن حلال، ويبدو أنّ صحبتكما قديمة.
وفي نهاية اللقاء طلب منّي الطبيب رقم هاتفي، فاعتذرْتُ بأنّني لا أحفظه ولا أحمله. ابتسم وقال:
- لا مشكلة في هذا، على العموم يا ليتَكَ تزورني كلّما سنحتْ لكَ الفرصة.
- أتشرّف دكتور.
وودّعنا وودّعناه، وسهرتُ الليل بطولهِ مع أسعد، إلى صباح اليوم التالي، عندما اطمأنَنْتُ بأنّ صحّتَهُ قد تحسّنتْ، فودّعتُهُ وانصرفْتُ إلى بيتي في الملحق في سطح إحدى العمارات.
وبعدَ يومين ذهبْتُ إلى الدكتور في نفس الموعد تقريباً، فاستقبلني، وغلى لي فنجان قهوة على سخّانة كهربائيّة كانت قربَ مكتبه، فشربْنا، وتحادثنا حديثاً في منتهى الودّ والتقدير. لم أشعر بمثل هذا الودّ من زمان أصدقاء أبي رحمه الله.
ثمّ قال لي:
- يبدو أنّ عندكَ خبرة في التعامل مع المرضى.
- نعم يا دكتور، فالناس كلّهم يعتبرونني حنوناً عطوفاً قلبي رقيق أسارع إلى مساعدة أيّ مريض.
- ماذا تشتغلُ في هذه الأيّام؟
- لا شيء، حالياً بدون عمل.
- ما رأيكَ أن تشتغل عندي في هذه العيادة؟
شعرتُ بأنَّ عليَّ أن أبدو متمنِّعاً بعضَ الشيء، في حين كان عقلي يقول: وافقْ ولا تتردّد، فهي فرصةُ العمر. وبعدَ عدّةِ دقائقَ قلتُ له:
- أتشرّف بالعمل معكَ دكتور، وما هي مهمّتي؟
- تنظيف العيادة، واستقبال المرضى، وعددهم ليسَ كبيراً، في كلّ يوم أقلّ من عشرة مرضى.
- لا بأس، أنا في الخدمة، وسعيد أن أشتغلَ معك.
عرفْتُ أنّ هذا الطبيب يأخذُ أعلى رقم من المال، مقابل الكشف الطبّيّ في عيادته، وأكثر منه بكثير إذا زار المريض في بيته.
أكثر من شهر ونحن كأنّنا أَخَوان، أو صديقان حميمان، وعندما وجدْتُ الفرصةَ سانحةً وهو في حالةٍ ممتازة من الراحة النفسيّة، قلتُ في نفسي: لا بدَّ من أن أصارحه في تخفيض ثمن كشفه الطبّيّ، ولكن كنتُ أرتّب الكلمات والعبارات اللطيفة التي عليّ أن أواجهه بها.
- دكتور، هل تتعب إذا ازدادَ عدد المرضى في اليوم الواحد عندك؟
- لا.. لا أتعب.
- هل تعلم سبب قلّة العدد؟
- نوّرني، أعطِني فكرة..
- الثمن المرتفع لقيمة كشفكَ الطبّيّ.
- ولكنّني أقومُ بجهدٍ واضح، وأعطي مريضي حقّه من الفحص والمعاينة والاهتمام.
- وفي الوقتِ نفسه، اسمح لي، عندكَ وقت فراغ واضح، يمكن ملؤه بمرضى أكثر.
- بسرعة ومن الآخر، هل عندكَ خطّة تزيد من عدد المرضى عندي؟
- أكيد عندي، ولكن عندي طلب قبلها.
- وما هو؟
- تخفيض قيمة الكشف.
- حسناً، واعتبرني قد خفّضْتُهُ من هذه اللحظة. كم تريد أن نعلنَ هذا؟
واتّفقْنا على مبلغ متوسّط، وطلبْتُ منه أن يعلنَ ذلك في أكثر من جريدة يوميّة، وأنْ يُعطي مزايا للمرضى. فوافق على كلّ شيء. ثمّ قال في وجهٍ بشوش:
- مبسوط على هذا القرار؟
- أنا في حالة فرحٍ غريبة، وبقيّة الخطّة اتركْها لي.
وفي اليوم التالي طلبَ من أحد الإعلاميين أن يزورَهُ، فطلبْتُ منه أن يطبعَ أكثر من ألف منشور ورقي عن الدكتور واختصاصه، لكي أوزّعها أنا على طريقتي الخاصّة.
بعد أقلّ من خمسة أشهر صارَ عدد المرضى في اليوم الواحد عندهُ إلى عدد يزيد على الثلاثين، وأحياناً يصل الرقم إلى الخمسين، في الفترتين الصباحية والمسائيّة.
صباحاً منذ الساعة التاسعة وحتّى الواحدة، ومساءً منذ الخامسة وحتّى التاسعة. وأنا في حالةٍ نفسيّة ممتازة، من معاملتِهِ معي، ومعاملتي للمرضى عموماً، وكأنّني مديرٌ أسيّرُ حركةَ الدخول والخروج إلى الطبيب.
وفي يومٍ من الأيّام مرّت ساعات ولم يأتِنا أحد، وانتهت الفترة الصباحية دونَ أيّ مريض.
استأذنَ الدكتور فتحي، وهو مكتئب، وذهبَ وطلب منّي تنظيف العيادة.
وفي الفترة المسائية حدثَ الأمر نفسه، وانتظرْتُ حتى الساعة السابعة، وأنا قلق جداً، ثمّ استأذنْتُ الدكتور فتحي، ونزلتُ على مهلي دونَ أن يشعر بي أحد، بعدَ أن غيّرتُ ملابسي، ووضعتُ منديلاً أخفيتُ فيه ملامحي.
رأيتُ رجلين في مدخل العمارة، وكنّا نحنُ في الطابق السادس من عمارة عدد طوابقها ثلاثةَ عشرَ طابقاً.
حاولتُ ألاّ ألفت انتباههما، وذهبْتُ بعيداً، ثمّ عُدْتُ أنا وثلاثة من رفاقي، ونبّهتهم أن يبقوا بعيدين عنّي إلاّ إذا رأوني في مشكلة مع أحد.
اقتربْتُ منهم، وسألتهم عن عيادة الدكتور فتحي، فانتبر إليّ أحدهم وقال لي:
- اذهب وشوف حكيم آخر.
قلتُ له:
- هم قالوا لي إنّه أفضل حكيم.
- يا عمّنا قلنا لك شوف حكيم آخر، والظاهر أنتَ لا ينفع معك الكلام.
وهجم هو ورجل آخر عليّ، فما كانَ من رفاقي إلاّ أن هبّوا، وقيّدوا الرجلين، وذهبنا بهما إلى القسم.
في القسم، وبعدَ تحقيقات وتدقيقات، تبيّن أنّ أكثر من خمسة أطبّاء كانوا مشتركين في خطّة لإبعاد المرضى عن الدكتور فتحي، بعدَ أن صار أشهر طبيب في المدينة، وصارَ عدد مرضاه يومياً لا يقلّ عن 40 في أيّ حالة من الحالات، وربّما يزداد العدد في بعض الأيام عن الستّين. وأغروا هذين المأجورين من أهل السوابق بتهديد المرضى، وصاروا يعطونهم عناوين الأطبّاء الذين خطّطوا لهذا الفعل الشنيع.
بعد أن انقشعتْ غبار الأزمة، جلسْتُ مع الدكتور فتحي، الذي علم بكلّ تفاصيلها، والذي لم يستطع أن يستفيدَ من النقابة بأيّ تصرّف، وأنّ القضيّة انتهتْ برصّ أذن كلّ واحد منهما، وبعض اللطمات على الوجه والبدن، ثمّ وقّعا على تعهّد بعدم التكرار.
أمّا أسماء الأطبّاء المحرّضين، فلم يُذكر في أيّ محضر أو وثيقة، ورغم أنّني قد حفظْتُ أسماء ثلاثة منهم، إلاّ أنّ النقابة ردّتْ على الدكتور فتحي بأنْ لا دليل عندها أو عنده عليهم.
قال لي الدكتور فتحي:
أنا سآخذ إجازة سنة كاملة من عملي، وأعتذرُ عن متابعتِكَ معي، كنتَ رائعاً يا حرفوش، ولكن يبدو أنّنا لسنا اليوم في زمن الرائعين.
محمد بن يوسف كرزون
عنوان الموضوع: "الحرفوش الصغير في عيادةِ الطبيب بقلم: محمد بن يوسف كرزون "
إرسال تعليق