الحرفوش الصغير في حديقة الحيوانات بقلم: محمد بن يوسف كرزون

الحرفوش الصغير في حديقة الحيوانات
بقلم: محمد بن يوسف كرزون
الشرطي الغلبان، مثلي، قال لي إنّه سيساعدني في تأمين عمل مناسب لي. طبعاً فرحتُ، بل طارَ عقلي من الفرح، ورحتُ أرقص في الشارع.
وصلْنا إلى باب حديقة الحيوان، وهذه ثاني مرّة أدخلها، فقد دخلتُها مرّةً سابقة منذ عشر سنوات تقريباً، وإلى منطقة القرود، وإلى جانبها منطقة الزرافات وحمير الوحش.
عرّفني على المسؤول عن الحديقة، فسألني السيد المدير:
- هل سبقَ أن عملتَ في حديقة الحيوان؟
وحضّرْتُ نفسي، سأجيب إجابةً تجعلني شجاعاً ويقبلون بي. أجبتُهُ:
- نعم، عملتُ كثيراً، كنتُ في بلد أجنبيّ، واشتغلتُ في حديقة الحيوان ثلاث سنوات وأكثر.
فاجأني بسؤال سريع:
- في أيّ بلد كنت؟
- في الهند، نعم في الهند، وظنّوني مهراجا...
- حسناً! هل تشتغل مساعداً في منطقة الفهود؟
- نعم، بكلّ تأكيد...
وقلتُ في نفسي: أليسَ الفهود هم نوع من أنواع القطط والهررة الكبيرة؟ الهرر والقطط تخاف منّي وتهرب، وبعضها صديق حميم لي..
وقفَ المدير، وصافحني، وقالَ لي:
- تعالَ نذهب إلى إدارة الحديقة لأعرّفكَ على مَنْ ستشتغل معهم.
وبعدَ أقلّ من ساعتين قالوا لي أنتَ ثروة كبيرة للحديقة، فقد حدّثتهم عن مغامراتي مع هذه الكائنات، واستبدلتُ ما في ذاكرتي من معلومات عن الهررة بالحديث عن الفهود، وكأنّني صديق حميم لها، أطعمها بيديّ، وأغسل أجسامها بالماء والصابون، وزدتُ على ذلك بأنْ ذكرتُ لهم أنّني كنتُ أنامُ مع الفهود، وأنا أقصد بذلك تجربتي مع القطط. أليست القطط نوع من أنواع الفهود؟
حملتُ سلّةً كبيرة فيها لحم، واقتربْتُ شيئاً فشيئاً من مجموعة فهود مؤلّفة من ستة، اقتربتْ منّي المجموعة، فألقيتُ لها قطعَ اللحم التي فرمتُها قطعاً صغيرةً، فصارَ كلّ فهد يتبع القطعةَ التي أرميها. 
أعجبني المنظر كثيراً، جلستُ على الأرض، وأنا أرمي قطعَ اللحم يميناً ويساراً، وهي تتقافزُ برشاقةٍ عجيبة لتلتقطَ القطع.
ثمّ اقتربتْ منّي، وبعضها اضطجعَ قربي تماماً، وهو يتجشّأُ، تعبيراً عن حالة الشبع عندهُ.
وبدأتُ أمسح على جلودها، أليست الفهود نوعاً من أنواع القطط؟ انظروا إليها معي كم هي وديعة، ورقيقة، وأليفة...
ثمّ خرجْتُ بهدوءٍ من حظيرتها، وقفلتُ البابَ، ورجعْتُ إلى الإدارة.
أثنى أعضاء الإدارة على شجاعتي، وأبدوا إعجاباتهم بخبرتي، وأنّني قد استطعْتُ أن أكسبَ ودّ الفهود خلال أقلّ من ساعتين.
في اليوم التالي قالوا لي:
- عليكَ اليوم أن تُدخِلَ لهم لحوم طيور، كنوعٍ من التغيير والتنويع.
قلتُ لهم:
- حسناً، سأدخل إليهم كما في المرّة الماضية.
نصحوني:
- ألقِ اللحوم من الخارج قرب مكان تجمّعها، فربّما لا يعجبها لحم الطيور.
- لا.. لا.. هي ستكون مسرورة جداً منّي، وبالأمس كانت التجربة الأولى والناجحة جداً.. سأبقى شجاعاً، وستبقى الفهود أصدقائي.
دخلتُ إليها، فصارت تحوم حولي، ألقيتُ قطعةً، فشمّها فهد كبير، فلم يستسغها، وابتعدَ عنّي وعنها. ثمّ تبعه كلّ عناصر المجموعة، وكأنّها تقول لي: وهل هذا طعام يأكله فهد؟
حاولتُ الاقترابَ منها، أو أسرعْتُ في اللحاق بهم، فأسرعوا في الهروب منّي، وصرتُ أركض وهم يركضون، ما شاءَ الله! ما هذه السرعة للفهود! وابتعدوا عنّي كثيراً جدّاً.
حملتُ سلّتي التي ما تزال مليئة، وخرجْتُ.
أعضاءُ الإدارة ازدادوا إعجاباً بي، فقد كانوا يراقبونني من عدّة كاميرات، ويتابعونَ عملي مع الفهود.
لم أطلب للفهود طعاماً بديلاً، فقد قلتُ: إنّهم في حالة شبع، وإلاّ لأكلوا من لحوم الطيور التي كانت معي، فالقطط كانت تأكل كلّ ما أرمي لها من لحوم وبقايا جلود وغيرها.
في اليوم الثالث أخذتُ وجبتها، وكانت نوعاً من اللحم تشبه وجبةَ اليوم الأوّل.
وفاجؤوني بهجوم من قِبَلِ المجموعة كلّها، فانقضّوا على السلّة، إلاّ كبيرهم، فقد انقضّ عليّ.
وحمدتُ ربّي وشكرتُهُ أنّني كنتُ في فصل الشتاء، وطبقات ثيابي متعدّدة وسميكة، وحمدتُ ربّي ثانياً لأنّني كنتُ أرتدي القفّازات، وحمدتُ ربّي أخيراً بأنّني كنتُ قريباً من الباب...
لم يبقَ لي معطف سليم، ولا بنطال، ولا ما تحتَ البنطال، صحيح أن جروح أسنانه كانت سطحيّة، وعقّمها عناصر الإدارة فوراً، وضمّدوها لي، فقد نجوتُ بأعجوبة.
وبعد أسبوع عُدْتُ إلى حديقة الحيوان، لأرجعَ إلى عملي، فقالوا لي إنّهم قد أتوا بعامل جديد، وأنّ أجري عند المحاسب.
ذهبْتُ إلى المحاسب، فحاسبني بستين جنيهاً، ثمّ حَسَمَ منها عشرين جنيهاً ثمنَ الضماد وتوابعه، ولكنّهُ دفعَ لي ثلاثين جنيهاً فقط، لأنّ حسابي ثلاثاً وثلاثين، وليسَ معهُ فكّة ثلاث جنيهات.
أخذتُ المبلغَ، وحمدتُ الله، وقلتُ في نفسي: في المرّة القادمة سأقولُ لهم أنا خبير قطط وهررة، ولا علاقةَ لي بالفهود. ولكن أينَ أجد حديقةَ حيوان أخرى في بلادي؟ لا أعلم.
محمد بن يوسف كرزون

عنوان الموضوع: "الحرفوش الصغير في حديقة الحيوانات بقلم: محمد بن يوسف كرزون"

إرسال تعليق

الاعضاء